14 القدود الحلبية.. تراث الماضي يعانق الحاضر - دار أمل للنشر دار أمل للنشر

القدود الحلبية.. تراث الماضي يعانق الحاضر

القدود الحلبية

سامر عاطف

تعدُّ القدودُ الحلبيَّةُ منَ الفنونِ الموسيقيَّةِ السّوريةِ العربيَّةِ الأصيلةِ، التي اشتهرتْ بها مدينةُ حلبَ منذُ القدمِ، وهي عبارةٌ عنْ منظوماتٍ غنائيةٍ أُنشِئَتْ على أعاريضَ وألحانٍ دينيةٍ أو مدنيةٍ، بمعنى أنَّها بُنيتْ على قدٍّ، أي على قدرِ أغنيةٍ شائعةٍ، إذ تستفيدُ منْ شيوعِها لِتحقِّقَ حضورَها.

 

أهمية القدود الحلبية بين القديم والحديثً

 

القدودُ الحلبيةُ منَ الفنونِ الموسيقيَّةِ السوريّةِ الأصيلةِ، ويمثّلُ قالبُ القدودِ أحدَ القوالبِ الغنائيّةِ التي لعبتْ دوراً هامّاً في مرحلةِ الانتقالِ بينَ المُدوّنةِ الموسيقيّةِ الغنائيّةِ العربيّةِ للقرونِ الوسطى، وبينَ المُدوّنةِ الموسيقيّةِ الغنائيّةِ الحديثةِ، وقد اشتهرتْ بها مدينةُ حلبَ منذُ القِدمِ ، وعرفتْ القدودُ منذُ زمنِ القسِّ السِّريانيِّ(مارافرام) 306م، الذي دعى النّاسَ وعملَ على ترغيبِهم للحضورِ إلى الكنيسةِ، وإدراجِ الألحانِ الدِّينيَّةِ، التي يألفُها الناسُ في طقوسِ يومِ الأحدِ، ومنْ ضمنِها كانتْ انطلاقةُ القدودِ، وأصلُ القدودِ منَ الأغنياتِ الدّينيّةِ التي كانتْ تُغنَّى في الحلقاتِ والأذكارِ، ثمَّ جاءَ مَنْ بدّلَ كلماتِها الدّينيَّةَ بكلماتٍ غزليَّةٍ، معَ الحفاظِ على اللّحنِ كما هوَ، وشاعتِ الأغنياتُ الجديدةُ في الأفراحِ والأعراسِ، وسُمِّيتِ الأُغنياتُ الجديدةُ بالقدِّ، لأنَّ لها لحناً على قدِّ قياسِ اللّحنِ القديمِ والكلماتِ على وزنِ الكلماتِ القديمةِ معَ اختلافِ المضمونِ، فقيلَ:"هذهِ الأغنيةُ قدُّ تلكَ الأغنيةِ".

 

أنواع القدود الحلبية:

 

القدُّ الشعبي: وهوَ عبارةٌ عنْ منظوماتٍ غنائيَّةٍ مُتوارثةٍ عنِ الأجدادِ، والقسمُ الأكبرُ منهُ، لا يُعرَفُ كاتبُهُ أو ملحِّنُهُ.

القدُّ الموشَّح: وعادةً يكونُ مبنياً على نظامِ الموشَّحِ القديمِ منْ حيثُ الشَّكلِ الفنيِّ وبصياغةٍ جديدةٍ، ولهُ ثلاثةُ مصادرٍ، وهمْ: الموشَّحاتُ والأناشيدُ الدِّينيَّةُ المتداولةُ في الموالدِ والأذكارِ، والأغاني الشَّعبيَّةُ والفولكلوريَّةُ والتُّراثيَّةُ.

 

حلب منبع رواد الموسيقى والغناء في العالم العربي

 

عُرفَ عنْ أهلِ حلبَ وسكَّانِها اهتمامُهمْ بالموسيقى وفنونِها، فمنذُ القِدمِ كانَ لمدينةِ حلبَ شأنٌ كبيرٌ بفنونِ الموسيقى، واحتلَّتْ مساحةً كبيرةً منْ حياةِ أهلِها، لذلكَ استحقَّتْ عنْ جدارةٍ، أنْ يُطلقَ عليها عاصمةُ الموسيقى، وقدْ كانَ أهمُّ كتابٍ في الغناءِ لمدينةِ حلبَ نصيباً كبيراً منه، وقُدِّمَ إلى أميرِها(سيف الدولة)، وهوَ كتابُ(الأغاني لأبي الفرجِ الأصفهاني)، كما أنجزَ الفيلسوفُ(الفارابي) كتابَهُ الموسيقيَّ الكبيرَ في مدينةِ حلبَ، وعُرفَ الكثيرُ منَ الموسيقيِّينَ منَ الأساتذةِ الكبارِ في حلبَ، وخرجتْ منْ حلبَ ألوانُ الموسيقى العربيَّة.

 

حلب في العصر الحديث

 كانتْ حلبُ مركزاً ومدينةَ اختبارٍ وامتحانٍ لِكبارِ روَّادِ الموسيقى والغناءِ في عالمِنا العربيِّ، مثلِ "بديعة مصابني، عبده الحامولي، سيد درويش، سيد السفطي، سلامة حجازي، محمد عبد الوهاب، كارم محمود، نور الهدى، سعاد محمد"، والكثيرِ غيرِهم منْ سوريا ومصرَ. وأخذَ الملحِّنونَ والموسيقونَ منْ فنونِ حلبَ الكثيرَ منْ أشهرِ المواويلِ والأغاني وأنواعِ الموسيقى، ولقد اشتهرَ عددٌ منَ المغنِّيينَ الحلبيّينَ بأداءِ القدودِ، وأشهرُهمْ"صباح فخري"، الذي برعَ وتميَّزَ في غناءِ القدودِ الحلبيَّةِ، بلْ تربَّعَ على عرشِها، ولمْ يتمكَّنْ أحدٌ أنْ يُنافسَهُ فيها.

 

القدود الحلبيّة.. ألحان محلّيّة بنصوص عصرية

القدودُ الحلبيّةُ مخزونٌ كبيرٌ منَ الألحانِ المُبهجةِ البسيطةِ، أنتجتْها قرائحُ مُلحّني تلكَ المدينةِ حلبَ، التي شهدتْ حتَّى نهايةِ القرنِ التّاسعِ عشرَ، ولعدّةِ قرونٍ انقضتْ، مكانةً تجاريّةً واقتصاديّةً مرموقةً، حقّقَها موقعُها الاستراتيجيُّ، على مسارِ القوافلِ المُتّجهةِ منْ أقصى شرقِ آسيا إلى أقصى غربِ أوروبّا، ومنْ أقصى جنوبِ الجزيرةِ العربيّةِ ومصرَ والمغربِ العربيِّ إلى أقصى شمالِ العالمِ الإسلاميِّ، ما ولَّدَ ظروفَ عيشٍ مُترفةٍ، شكلّتْ سوقاً رائجةً للغناءِ. والقدودُ الحلبيّةُ تُعتبرُ: هيَ الألحانُ النّاتجةُ عنْ إعادةِ توظيفِ ألحانٍ مَحلّيّةٍ، حسبَ مُقتضياتِ تغيّرِ العصرِ، أو وافدةٍ عبرَ تجريدِها منْ نصوصِها القديمةِ، محلّيّة كانتْ، أو بلهجةٍ أو لغةٍ أخرى، وإكسائِها بنصوصٍ جديدةٍ باللّهجةِ المَحلّيّةِ، لِتتلاءَمَ معَ أذواقِ المستمعينَ منْ كبارِ التُّجّارِ، الذينَ كانوا أهمَّ مموّلي الغناءِ.

 

أغاني وقدود خلدت وفاء مدينة حلب

اختصتْ حلبُ تحديداً بفنِّ"القدودِ الحلبيَّةِ"، الذي يمثِّلُ خليطاً منَ الموشَّحاتِ الأندلسيَّةِ والأعجميَّةِ والأغاني الشَّعبيَّةِ، واشتهرَ بها عددٌ منَ المُغنِّيينَ الحلبيِّينَ، أشهرُهم:(صباح فخري، وحسن الحفار)، وأغانٍ انتشرتْ عالمياً منْ حلبَ، منها:"على العقيقِ اجتمعنا"، و"عالروزانا"، التي غنَّتها فيروز، ومنْ أشهرِ الأغاني والقدودِ الحلبيَّةِ الَّتي خلَّدتْ وفاءَ المدينةِ، والتي غنَّاها(فخري): "البلبل ناغي ع غصن الفل، وقدك المياس، وأنا وحبيبي، و قل للمليحة، وياما اسعد الصبحية، وياهويدلل، وسكابا يا دموع العين، و هلاهلا يا جملو، و دومك دومك دوم، ويا شادي الألحان".

وأخيراً.. وبما أنَّ القدودَ الحلبيَّةَ مرآةٌ لعمقِ وأصالةِ الهويَّةِ الفنيَّةِ السُّوريَّةِ، وهيَ جزءٌ منْ ثقافةٍ وتراثِ المجتمعِ السُّوريِّ العريقِ، فلقدْ أدرجتْ منظَّمةُ الأممِ المُتَّحدةِ للتَّربيةِ والعلمِ والثَّقافةِ(اليونسكو) القدودَ الحلبيَّةَ على لائحةِ التُّراثِ الثَّقافيِّ العالميِّ غيرِ الماديِّ، خلالَ انعقادِ الدَّورةِ 16 للَّجنةِ الحكوميَّةِ الدُّوليَّةِ لحمايةِ التُّراثِ الثَّقافيِّ اللا ماديِّ في باريسَ، حيثُ يشكِّلُ هذا القرارُ مَكسباً شرَفيَّاً لمدينةِ حلبَ، وللتُّراثِ الفنِّيِّ السُّوريِّ والعربيِّ ككلّ.


المصادر:

·        الموسوعة التاريخية لأعلام حلب

·        سبوتنيك